الألم ليس مذموماً دائماً ولا مكروهاً أبداً فقد يكون خيراً للعبد أن يتألم.
إن الدعاء الحار لا يأتي إلا مع الألم والتسبيح الصادق يصاحب الألم وتألم الطالب زمن التحصيل وحمله لأعباء الطلب يثمر عالماً لأنه أحترق في البداية فأشرق في النهاية، وتألم الشاعر ومعاناته لما يقول تنتج أدباً مؤثراً خلاقاً لأنه أنقدح مع الألم من القلب والعصب والدم فهز المشاعر وحرك الأفئدة، ومعاناة الكاتب تخرج نتاجاً حياً جذاباً يمور بالعبر والصور والذكريات.
إن الطالب الذي عاش حياة الدعة والراحة ولم تلدغه الأزمات ولم تكوم الملمات إن هذا الطالب يبقى كسولاً مترهلاً فاتراً، وأن الشاعر الذي ما عرف الألم ولا ذاق المر ولا تجرع الغصص تبقى قصائده ركاماً من رخيص الحديث وكتلاً من زبد القول لأن قصائده خرجت من لسانه ولم تخرج من وجدانه وتلفظ بها فهمه ولم يعشها قلبه وجوانحه.
وأسمى من هذه الأمثلة وأرفع حياة المؤمنين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة وبداية البعث فإنهم أعظم إيماناً وأبر قلوباً وأصدق لهجة وأعمق علماً لأنهم عاشوا الألم والمعاناة، ألم الجوع والفقر والتشريد والأذى والطرد والإبعاد وفراق المألوفات وهجر المرغوبات وألم الجراح والقتل والتعذيب فكانوا بحق الصفوة الصافية والثلة المجتباه، آيات في الطهر وأعلاماً في النبل ورموزاً في التضحية {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
وفي عالم الدنيا أناس قدموا أروع نتاجهم لأنهم تألموا فالمتنبي وعكته الحمى فأنشد رائعته:
وزائـــــــــــرتي كـــأن بــهــا حـــــيــاءً فـــــلـــيــس تـزور إلا فـــــي الظـــلام
والنابغة خوفه النعمان بن المنذر بالقتل فقدم للناس:
فــإنــك شــمــس والمـــــــــــلوك كــواكب إذا طــلعــت لم يــبــد مــنهــن كــوكــب
وكثير أولئك الذين أثروا الحياة لأنهم تألموا.
إذاً لا تجزع من الألم ولا تخف من المعاناة فربما كانت قوة لك ومتاعاً إلى حين فإنك إن تعش مشبوب الفؤاد محروق الجوى ملذوع النفس أرق وأصفى من أن تعيش بارد المشاعر فاتر الهمة خامد النفس {وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}.
ذكرت بهذا شاعراً عاش المعاناة والأسى وألم الفراق وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في قصيدة بديعة الحسن ذائعة الشهرة بعيدة عن التكلف والتزويق إنه مالك الريب يرثي نفسه:
ألــم ترني بعــت الضــلالة بالـهــدى وأصبـحت في جــيـش ابـن عـفـان غــازيــاً
فــلــلــه دري يــوم أتــرك طـائـعـــاً بـنـي بأعــــلى الرقـمتــــــــــــيـــن ومـالــــيـا
فيــا صــاحــبــي رحلي دنـا المــوت فانـــزلا برابيـة إنـي مقــــيـــــــــم ليـالــيـــا
أقــيما عـلي اليــوم أو بــعـض ليـلـة ولا تعـجــــــلانــي قــد تـبـــــــــــيـن مـابـيــا
وخـطا بأطـراف الأســـنة مضـجعــي وردا عــلـى عــيــنــي فــضــــــــل ردائـــيـــا
ولا تحــسداني بـــارك الـلــه فــيكــما مــن الأرض ذات العرض أن تـوســعا ليــــا
إلى آخر ذلك الصوت المتهدج والعويل الثاكل والصرخة المفجوعة التي ثارت حمماً من قلب هذا الشاعر المفجوع بنفسه المصاب في حياته.
إن الوعظ المحترق تصل كلماته إلى شغاف القلوب وتغوص في أعماق الروح لأنه يعيش الألم والمعاناة {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَاَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَاَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.
لا تعـــذل المشـــــــــتاق فــي أشـــــــــــــواقه حتى يكـــــــــون حشـــــــاك فــــــي أحــشــائـــه
لقد رأينا دواوين ولكنها باردة لا حياة فيها ولا روح لأنهم قالوها بلا عناء ونظموها في رخاء فجاءت قطعاً من الثلج وكتلاَ من الطينلشعراء ، ورأينا مصنفات في الوعظ لا تهز في السامع شعرةً ولا تحرك في المنصت ذرةً لأنهم قالوها بلا حرقةٍ ولا لوعةٍ ولا ألمٍ ولا معاناةٍ {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}
فإذا أردت أن تؤثر بكلامك أو بشعرك فاحترق به أنت قبل وتأثر وذقه وتفاعل معه وسوف ترى أنك تؤثر في الناس {فَاِذَا اَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَاَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
المصدر: كتاب لا تحزن
لفضيلة الشيخ د/ عائض القرني