مفارقات
بين عالمي الغيب والشهادة في المشهد العربي
أ.د.صلاح الدين سلطان
يخطئ كثيرا من يقرأ أحداث العالم من النافذه الصغيرة لعالم الشهادة، ويصيب تماما من يجمع بين قراءة عالمي الغيب والشهادة، فمن أصر على قراءة عالم الشهادة فقط بمعنى الاعتماد على لغة الأرقام والإحصاءات وموازين القوى والميزانيات فلن يصدق حتى اليوم أن" بن علي هرب" ومبارك في السجن، والقذافي تحت التراب، وعلي عبد الله فاسد خارج الرئاسة ويستعد للأنقاض، وجزار الأسد في طريقه للحاق بهم، وكل أجهزة المخابرات العالمية من أمريكية أو صهيونية أو روسية أو أوربية أو عربية لم تتوقع ما حدث في المشهد العربي لأنهم جميعا لا يؤمنون إلا بعالم ضيق هو عالم الشهادة فجاءهم ما قاله الله تعالى عن عالم الغيب: "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" (الحجر:21)؛ لأن هذا الكون لا يدار - كما يتصور محدودو العقل وضيقو الصدور – من خلال البيت الأبيض في أمريكا، أو الكرملن في روسيا، أو الأليزيه في فرنسا، أو مجلس العموم في لندن، أو قصر المستشار الألماني في برلين، ولا في مطابخ أجهزة الأمن في دولنا العربية، بل الأمر كله بيد الله تعالى الذي قال عن نفسه: "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ" (الرعد: من الآية2)، وقال تعالى: "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ" (السجدة: من الآية5)، لكن الله تعالى يُمهل الظالمين أياما وشهورا وسنين كي يعطيهم الفرصة للتوبة والأوبة لكنه سبحانه يقول: "وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" (الأعراف: 183)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يملي للظالم . فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ : "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" (11/ هود / 102) رواه مسلم، وبالتالي فمن يؤمن بالغيب عندما تحتد سطوة الباطل تهديدا ووعيدا، أوتخريبا وإفسادا، أو قتلا وإرهابا، أو سجنا وتعذيبا، فلابد أن يدرك أن هذه بداية النهاية لهؤلاء الظالمين، وآخر فصول المشهد، ونهاية الفرعون كانت بعد استعلائه على الله فقال: " أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ" (النازعات من الآية24)، وهدد المؤمنين بقوله: "فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ" (طه: من الآية71)، وكانت ورقته قد سقطت في عالم الغيب، وظل في وجدان سيدنا هارون وموسى ما وعد به رب العزة في غيبه المكنون: "إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ" (طه: من الآية 46)، فلما نظر الناس إلى عالم الشهادة ونسوا عالم الغيب عندما رأوا الفرعون وزبانيته يخوضون وراءهم الطريق في البحر يبسا فقالوا:" إِنَّا لَمُدْرَكُونَ" (الشعراء: من الآية 61) فكان موقف سيدنا موسى قويا راسخا مذكِّرا بقراءة أوسع وأعمق وأقوى وأضمن من كل مشاهد عالم الشهادة حتى ولو كانت جحافل الفرعون على بعد أمتار حيث قال سيدنا موسى لقومه:" إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" (الشعراء: من الآية62) والنتيجة هي غرق الفرعون وقومه وهلك ما كانوا يعرشون.
أقول هذا موقنا يقينا لا يخالجني فيه أدنى درجة من درجات الشك أن نظام بشار سينهار في سوريا، وأن حكم العسكر سينتهي بمصر رغم كل الأنياب التي كشَّرعنها، والوعيد الذي أطلقه، فنحن نوقن أن أوضاع أمتنا تصير إلى التمكين للإسلام والمسلمين، وأنه قطعا سيتحرر الأسرى والأقصى والقدس وفلسطين، وعلى أذكياء السياسة – إن حُرموا نعمة الديانة- أن يتدربوا على قراءة جديدة تجمع بين عالمى الغيب والشهادة بعد ثبوت أخطائهم الفادحة في حسابات عالم الشهادة فقط، أما من حُرم التوفيق ديانة أو سياسة فسيظل كارها لعودة الإسلام دين الله الخاتم حاكما، ناشرا الأمن على الجميع مسلمين وغير مسلمين من غير المعتدين، ومحققا العدالة بين الرجال والنساء، الحكام والمحكومين، الأغنياء والفقراء، وسيظل أصحاب عالم الشهادة فقط يبثون الرعب في الترهيب من خطر الإسلاميين على كل شيء، لا يرون في المجالس النيابية المنتخبة إلا كل نقيصة، ويعممُّون الشواذ، ويُخفون اللوحة الكبيرة ويظهرون الزوايا الحقيرة، يختلقون الأزمات، ويلقون بالبترول والسولار في الترع والصحراء، ويخرِّبون الميزانيات، ويشتغلون قطاع طرق على الشعوب الثائرة بالحق والحكومات المنتخبة القادمة من اختيار الشعب أن تجد كفافا تبدأ منه مشاريع الإصلاح، وكأنهم يعاقبون الشعب على اختياره المفاجئ للإسلاميين لأنه من عالم الغيب الذي لا يؤمنون به ولا يرغبون فيه، بل يتمنى بعضهم أن يكون مقبورا قبل أن يصل هؤلاء الأطهار الأبرار إلى مواقع اتخاذ القرار، الذي تحكّم فيه الأشرار، دهرا من الزمان بالسيف البتار والحديد والنار؛ فجاءهم من غيب الله تعالى هذا الربيع المدرار، ليقلب الليل إلى النهار، ويحوِّل الإعصار إلى استقرار، وسبحان الله لقد قال أحد حديثي عهد بالإسلام ممن لم يستقر الإسلام في قلبه ولا يزال متعلقا بالجاهلية الأولى وأعرافها الفاسدة فلما رأى بلالا يؤذن بعد فتح مكة فوق الكعبة فقال هذا المسلم الجديد: "أحمد لله أن أبي قد مات قبل أن يرى هذا الأسود يصعد ويؤذن فوق الكعبة".
نحن لا زلنا في بداية الثورة بمصر وغيرها، وقراءة عالم الشهادة وحده خاصة من أجهزة الإعلام الفاسدة تقول نحن نسير إلى الأسوأ، ولن نرى نور الفجر، ولا أمارات الاستقرار، أما قراءة عالم الغيب فتقول : (إنه من يُغَالب الله يُغْلب)، وغدا بإذن الله تشرق على المنطقة العربية كلها أنوار الفجر الساطع، وبريق الشمس الناصع، وشيوع الأمن والغنى على الجميع، ويعود الأقصى حرا، وبين النصر والهزيمة صبر ساعة، فاستحضروا دوما قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (آل عمران:200)، ولا تنسوا أبدا أن الذي وعد بالفلاح هو الله الذى يحكم ما يريد، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
منقول